الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»
.تفسير الآيات (111- 112): وقوله عزَّ وجلَ: {إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وأموالهم بِأَنَّ لَهُمُ الجنة...} الآية: هذه الآيةُ نزلَتْ في البَيْعة الثالثة، وهي بيعةُ العَقَبة الكُبْرَى، وهي التي أَنَافَ فيها رجالُ الأنصار على السبعين؛ وذلك أنهم اجتمعوا مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم عند العقبة، فقالوا: اشترط لك، وَلَرَبِّكَ، والمتكلِّمُ بذلك عبدُ اللَّه بْنُ رَوَاحَة فاشترط نبيُّ اللَّه حمايته ممَّا يحمُونَ منه أنفسهم، واشترط لربِّهِ التزام الشريعةِ، وقِتَالَ الأَحمَرِ والأَسْوَدِ في الدَّفْع عن الحَوْزَة، فقالوا: مَا لَنَا عَلَى ذَلِكَ، يَا نَبِيَّ اللَّهِ؟ فَقَالَ: «الجَنَّةُ»، فَقَالُوا: نَعَمْ، رَبحَ البَيْعُ، لاَ تَقِيلُ وَلاَ تُقَالُ، وفي بعض الرواياتِ: وَلاَ نَسْتَقِيلُ فنزلَتِ الآية في ذلك. وهكذا نقله ابن العربيِّ في أحكامه، عن عبد اللَّه بن رَوَاحَة، ثم ذكر من طريق الشعبيِّ، عن أبي أمامة أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ نحو كلام ابنِ رَوَاحَةَ. قال ابن العربيِّ: وهذا وإن كان سنده مقطوعاً، فإن معناه ثابتٌ مِنْ طرق. انتهى. ثم الآية بَعْدَ ذلك عامَّة في كلِّ من جَاهَدَ في سبيلِ اللَّهِ مِنْ أمة نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة، قال بعضُ العلماء: مَا مِنْ مُسْلِم إلا وللَّه في عُنُقِهِ هذه البَيْعَةُ، وفى بِهَا أو لم يَفِ، وفي الحديث: «إِنَّ فَوْقَ كُلِّ بِرٍّ بِرًّا حَتَّى يَبْذُلَ العَبْدُ دَمَهُ، فَإِذَا فَعَلَ، فَلاَ بِرَّ فَوْقَ ذَلِكَ» وأسند الطبريُّ عن كثير من أهْلِ العِلْم؛ أنهم قالوا: ثَامَنَ اللَّه تَعَالَى في هذه الآية عِبَادَهُ، فَأَغْلَى لهم؛ وقاله ابن عباس وغيره، وهذا تأويلُ الجمهور. وقال ابن عُيَيْنَة: معنى الآية: اشترى منهم أنفسهم ألاَّ يُعْمِلُوهَا إلا في طاعته، وأموالَهُمْ أَلاَّ يُنْفِقُوها إِلاَّ في سبيله، فالآية علَى هذا: أعمُّ من القَتْلِ في سبيل اللَّه. وقوله: {يقاتلون فِي سَبِيلِ الله} على تأويل ابْنِ عُيَيْنة: مقطوعٌ، ومستأنفٌ، وأما على تأويل الجمهور مِنْ أَنَّ الشراء والبَيْع إِنما هو مع المجاهدين، فهو في موضع الحال. وقوله سبحانه: {وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التوراة والإنجيل والقرآن}: قال المفسِّرون: يظهر من قوله: {فِي التوراة والإنجيل والقرآن} أن كلَّ أُمَّة أُمِرَتْ بالجهاد، ووُعِدَتْ عليه. قال * ع *: ويحتملُ أَنَّ ميعاد أُمَّة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، تقدَّم ذكره في هذهِ الكُتُب، واللَّه أعلم. قال * ص *: وقوله: {فاستبشروا}: ليس للطلب، بل بمعنى: أَبْشِرُوا؛ كاستوقد، قال أبو عُمَرَ بْنُ عبد البِرِّ في كتابه المسمَّى ب بهجة المَجَالِسِ: وروي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قَالَ: «مَنْ وَعَدَهُ اللَّهُ عَلَى عَمَلٍ ثَوَاباً، فَهُوَ مُنْجِزٌ لَهُ مَا وَعَدَهُ، وَمَنْ أَوْعَدَهُ عَلَى عَمَلٍ عِقَاباً، فَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ» وعن ابن عباس مثله. انتهى. وباقي الآية بَيِّن. قال الفَخْر: واعلم أَنَّ هذه الآية مشتملةٌ على أنواع من التأكيدات. فأولها: قوله سبحانه: {إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وأموالهم}، فكون المشتَرِي هو اللَّه المقدَّس عن الكَذِبِ والحِيلَة مِنْ أَدَلِّ الدلائل على تأكيد هذا العَهْد. والثاني: أنه عبر عن إِيصال هذا الثواب بالبَيْعِ والشراءِ، وذلك حَقٌّ مُؤَكَد. وثالثها: قوله: {وَعْداً}، ووعد اللَّه حقٌّ. ورابعها: قوله: {عَلَيْهِ}، وكلمةُ عَلى للوجوب. وخامسها: قوله: {حَقّاً}، وهو تأكيد للتحقيق. وسادسها: قوله: {فِي التوراة والإنجيل والقرآن}، وذلك يجري مَجْرَى إِشهاد جميع الكُتُب الإِلهية، وجمِيعِ الأَنبياء والمُرْسلين عَلى هذه المبايعة. وسابعها: قوله: {وَمَنْ أوفى بِعَهْدِهِ مِنَ الله}، وهو غايةُ التأكيد. وثامنها: قوله: {فاستبشروا بِبَيْعِكُمُ الذي بَايَعْتُمْ بِهِ}، وهو أيضاً مبالغةٌ في التأكيد. وتاسعها: قوله: {وذلك هُوَ الفوز}. وعاشرها: قوله: {العظيم}. فثبت اشتمال هذه الآية على هذه الوجوهِ العَشَرةِ في التأكيدِ والتقريرِ والتحقيق. انتهى. وقوله عزَّ وجلَّ: {التائبون العابدون}، إلى قوله: {وَبَشِّرِ المؤمنين}، هذه الأوصافُ هي مِنْ صفات المؤمنين الذين ذكر اللَّه أنَّه اشترى منهم أنفُسَهُمْ وأموالهم، ومعنى الآية، على ما تقتضيه أقوالُ العلماء والشَّرْعُ: أنها أوصافُ الكَمَلَةِ من المؤمنين، ذكرها سبحانه، لِيَسْتَبِقَ إِليها أهْلُ التوحيد؛ حتى يكُونوا في أعْلَى رتبةٍ، والآية الأولى مستقلَّة بنفسها، يقع تَحْتَ تلك المبايعة كلُّ موحِّد قاتَلَ في سبيل اللَّهِ، لتكونَ كلمة اللَّه هي العليا، وإِنْ لم يتَّصفْ بهذه الصفات التي في هذه الآية الثانية أو بأكثرها، وقالَتْ فرقةٌ: بل هذه الصفاتُ جاءت علَى جهة الشَّرْط، والآيتان مرتبطتان، فلا يَدْخُلُ في المبايعة إِلا المؤْمِنُونَ الذين هُمْ عَلى هذه الأوصاف، وهذا تحريجٌ وتضييقٌ، والأول أصوبُ، واللَّه أعلم. والشهادة ماحيةٌ لكلِّ ذنب إلا لمظالِمِ العِبَادِ، وقد روي أن اللَّه عِزَّ وجلَّ يحمل على الشَّهِيدِ مَظَالِمَ العبادِ، ويجازِيهِمْ عنه، خَتَمَ اللَّهُ لَنَا بالحسنَى. و{السائحون}: معناه: الصائمون، وروي عن عائشة، أَنها قالَتْ: سِيَاحَةُ هَذِهِ الأُمَّةِ الصِّيَام؛ أسنده الطبريُّ، وروي أنه من كلامِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم. قَالَ الفَخْر: ولما كان أصل السياحة الاستمرار على الذَّهاب في الأرض، سُمِّي الصائم سائحاً؛ لاستمراره على فِعْل الطاعة وترك المَنْهِيِّ عنه مِنْ المفطِّرات. قال الفَخْر: عندي فيه وجْهٌ آخر، وهو أن الإِنسان إذا امتنع مِنَ الأَكل والشُّرب والوِقاع، وسَدَّ عَلَى نفسه بَابَ الشهواتِ، انفتحت له أبوابُ الحكمةُ وتجَلَّتْ له أنوار عالَمِ الجَلالِ؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَخْلَصَ للَّهِ أَرْبَعِينَ صَبَاحاً، ظَهَرَتْ يَنَابِيعُ الحِكْمَةِ مِنْ قَلْبِهِ عَلَى لِسَانِهِ فَيَصير من السائحين في عالَمِ جلالِ اللَّه المنتقلينِ مِنْ مقامٍ إلى مقام، ومن درجةٍ إلى درجةٍ» انتهى. قال * ع *: وقال بعضُ النَّاس، وهو في كتاب النَّقَّاش: {السائحون}: هم الجائلون بأفكارهم في قُدْرة اللَّه ومَلَكُوتهُ وهذا قولٌ حَسَن، وهو من أفضل العباداتِ، و{الراكعون الساجدون}: هم المصلُّون الصَّلوات؛ كذا قال أهل العلم، ولكن لا يختلف في أنَّ من يكثر النَّوافلَ هو أَدْخَلُ في الاسم، وأَعْرَقُ في الاتصاف. وقوله: {والحافظون لِحُدُودِ الله} لفظٌ عامٌّ تحته التزام الشريعة. * ت *: قال البخاريُّ: قال ابن عباس: الحدود: الطاعة. قال ابن العربيُّ في أحكامه، وقوله: {والحافظون لِحُدُودِ الله} خَاتمةُ البيان، وعمومُ الاشتمال لكلِّ أمْر ونهْي. انتهى. وقوله سبحانه: {وَبَشِّرِ المؤمنين}: قِيل: هو لفظ عامٌّ، أُمِرَ صلى الله عليه وسلم أَنْ يبشِّر أمته جميعاً بالخير من اللَّه، وقيل: بل هذه الألفاظ خاصَّة لمن لم يَغْزُ، أي: لما تقدَّم في الآية وعْدُ المجاهدين وفَضْلُهم، أمر صلى الله عليه وسلم، أنْ يبشِّر سائر المؤمنين ممَّن لم يَغْزُ بأنَّ الإيمان مُخَلِّص من النَّار، والحمد للَّه رب العالمين. .تفسير الآيات (113- 116): وقوله سبحانه: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والذين آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ...} الآية: جمهورُ المفسِّرين أنَّ هذه الآية نزلَتْ في شَأْن أبي طالب، وذلك أن رسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَيْهِ حين احتضر، فَوَعَظَهُ، وقَالَ: «أَيْ عَمِّ؛ قُلْ لاَ إله إِلاَّ اللَّهُ كَلِمَةً أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ»، وَكَانَ بالحَضْرة أَبو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّه بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ، فَقالا لَهُ: يَا أَبَا طَالِبٍ؛ أَترغَبُ عن ملَّة عَبْدِ المطَّلِبِ؟ فَقالَ أبو طَالِبٍ: يَا مُحَمَّدُ، وَاللَّهِ، لَوْلاَ أَنِّي أَخَافُ أَنْ يُعَيَّرَ بِهَا وَلَدِي مِنْ بَعْدِي، لأَقْرَرْتُ بِهَا عَيْنَكَ، ثُمَّ قَالَ: هُوَ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ المُطَّلِبِ، وَمَاتَ عَلَى ذَلِكَ؛ إذ لم يسمع منه صلى الله عليه وسلم ما قال العبَّاس، فنزلَتْ {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56] فقال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «وَاللَّهِ، لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ»، فَكَانَ يستغفر له حَتَّى نَزَلَتْ هذه الآية، فترك نبيُّ اللَّه الاستغفار لأَبي طالب، وروي أنَّ المؤمنين لما رأَوْا نبيَّ اللَّه يستغفرُ لأبي طالب، جعلوا يَسْتَغْفِرُونَ لموتاهم، فلذلك دَخَلُوا في النَّهْيِ، والآية على هذا ناسخةٌ لفعله صلى الله عليه وسلم؛ إِذ أفعاله في حُكْم الشرعِ المستقِرِّ، وقال ابن عبَّاس وقتادة وغيرهما: إِنما نزلَتِ الآية بسببِ جماعةٍ من المؤمنين قالوا: نَسْتَغْفِرُ لموتانا؛ كما استغفر إِبراهيمُ عليه السلام، فنزلَتِ الآية في ذلك، وقوله سبحانه: {وَمَا كَانَ استغفار إبراهيم لأَبِيهِ...} الآية: المعنى: لا حجَّة أَيُّها المؤمنون في استغفار إِبراهيم عليه السلام، فإِن ذلك لم يكُنْ إِلا عن موعدةٍ، واختلف في ذلك، فقيلَ: عن مَوْعِدَةٍ من إِبراهيم، وذلك قوله: {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً} [مريم: 47] وقيل: عن موعِدَةٍ من أبيه له في أنَّهُ سيؤمن، فَقَوِيَ طمعه، فحمله ذلك على الاستغفار له؛ حتى نُهِيَ عنه، ومَوْعِدَة مِنَ الوَعْدِ، وأما تبيُّنه أنه عَدُوٌّ للَّه، قيل: ذلك بموت آزر على الكُفْر، وقيل: ذلك بأنه نُهِيَ عنه، وهو حيٌّ، وقوله سبحانه: {إِنَّ إبراهيم لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} ثَنَاءٌ مِنَ اللَّه تعالَى على إِبراهيم، والأَوَّاهُ معناهُ الخَائِفُ الذي يُكْثِرُ التَّأَوُّهَ مِنْ خَوفِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، والتَّأَوُّهُ: التوجُّع الذي يَكْثُرُ حَتَّى ينطق الإِنسان معه ب أَوَّهْ؛ ومن هذا المعنَى قولُ المُثَقِّب العَبْدِي: [الوافر] ويروى: آهَة. وروي أن إبراهيم عليه السلام كان يُسْمَعُ وَجِيبُ قَلْبِهِ من الخشية، كما تُسْمَعُ أَجنحة النُّسُور، وللمفسِّرين في الأَوَّاه عباراتٌ كلُّها ترجعُ إِلى ما ذكرتُه. * ت *: روى ابن المبارك في رقائقه، قال: أخبرنا عبدُ الحميدِ بْنُ بَهْرَام، قال: حدَّثنا شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ، قَالَ: حَدَّثَني عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّاد، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا الأَوَّاهُ؟ قالَ: «الأَوَّاهُ الخَاشِعُ الدَّعَّاءُ المُتَضَرِّعُ؛ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: {إِنَّ إبراهيم لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ}» انتهى. و{حَلِيمٌ} مَعناه: صابرٌ، محتملٌ، عظيمُ العَقْل، والحِلْمُ: العقل. وقوله سبحانَهُ: {وَمَا كَانَ الله لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ...} الآية: معناه التأنيسُ للمؤمنين، وقيل: إن بعضهم خَافَ عَلَى نَفْسِه مِنَ الاستغفار للمشْركين، فنزلت الآيةُ مُؤْنسة، أيْ: ما كان اللَّه بَعْدَ أَنْ هدَى إِلى الإِسْلاَمِ، وأنقذ مِنَ النار لِيُحْبِطَ ذلك، ويضلَّ أهله؛ لمواقعتهم ذَنْباً لم يتقدَّم من اللَّه عنه نَهْيٌ، فأما إِذا بيَّن لهم ما يتَّقون من الأمورِ، ويتجنَّبون من الأشياء، فحينئذٍ مَنْ واقع شيئاً من ذلك بعد النَّهْيِ، استوجب العقوبة، وباقي الآية بَيِّنٌ. .تفسير الآيات (117- 118): وقوله سبحانه: {لَقَد تَّابَ اللهُ على النبي والمهاجرين والأنصار...} الآية: التوبةُ مِنَ اللَّه تعالَى هو رُجُوعه بعبده مِنْ حالة إِلى أَرفَعَ منها، فقد تكونُ في الأكثَرِ رُجُوعاً من حالة طاعةٍ إِلى أَكْمَلَ منها، وهذه توبته سبحانه في هذه الآيةِ عَلَى نبيِّه عليه السلام، وأما توبته على المهاجرين والأنصار، فمعرَّضةً لأنْ تكونَ مِنْ تقصير إلى طاعة وجِدٍّ في الغزو ونُصْرَةِ الدِّين، وأما توبته على الفريق الذي كاد يزيغ، فَرُجُوعٌ من حالة محطوطةٍ إلى حال غفران ورضاً؛ وقال الشيخ أبو الحَسَن الشَّاذِلِيُّ رحمه اللَّه: في هذه الآية ذَكَر اللَّه سبحانه تَوْبَةَ مَنْ لَمْ يُذْنِبْ لَئِلاَ يستوحِشَ مَنْ أذنب؛ لأنه ذكر النبيَّ صلى الله عليه وسلم والمهاجرين والأنصار ولم يذنبوا، ثم قال: {وَعَلَى الثلاثة الذين خُلِّفُواْ}، فذكر مَنْ لم يُذْنِبْ لِيُؤْنَسَ من قد أذنب، انتهى من لطائف المِنَن. و{سَاعَةِ العسرة} يريد: وقْت العسرة، والعُسْرة الشِّدَّةُ، وضيقُ الحَالِ، والعُدْمُ، وهذا هو جيشُ العُسْرة الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: «مَنْ جَهَّزَ جَيْشَ الْعُسْرَةِ، فَلَهُ الجنة»، فجهزه عثمانُ بْنُ عفَّان رضي اللَّه عنه بألْفِ جَمَلٍ، وألْف دينارٍ، وجاء أيضاً رجلٌ من الأنصار بِسَبْعِمَائَةِ وَسْقٍ مِنْ تَمْر، وهذه غزوةُ تبوكَ. * ت *: وعن ابن عَبَّاس؛ أنَّه قيل لِعُمَرَ بْنِ الخَطَّاب: حدِّثنا عن شأنِ سَاعَةِ العُسْرَة، فقال عمر: خَرَجْنَا إلى تبوكَ في قَيْظٍ شديدٍ، فنزلْنا منزلاً أصابنا فيه عَطَشٌ، حتى ظَنَنَّا أَنَّ رقابنا سَتَنْقَطِعُ حتى إنَّ الرجُلَ لَيَنْحَرُ بعيره، فَيَعْصِرُ فَرْثَهُ فيشربه، ثم يَجْعَلُ ما بقي عَلَى كَبِدِهِ، فقال أبو بكر: يا رَسُولَ اللَّهِ؛ إِنَّ اللَّه قد عَوَّدَكَ في الدعاءِ خيراً، فادع اللَّهَ، فَقَالَ: «أَتُحِبُّ ذلكَ؟» قَالَ: نَعَمْ، فَرَفَعَ يَدَيْهِ، فلم يَرْجِعْهما حتَّى مالَتِ السماء، فَأَظلَّتْ، ثم سَكَبَتْ فملؤوا ما معهم، ثم ذهبْنا ننظر، فلم نجدْها جاوَزَتِ العَسْكَر، رواه الحاكم في مستدركه على الصحيحين، وقال: صحيحٌ على شرط الشَّيْخَيْن، يعني: مسلماً والبخاريَّ انتهى في السلاح، ووصَل النبيُّ صلى الله عليه وسلم في غزوة تَبُوكَ إِلى أوائلِ بلد العَدُوِّ فصالحه أَهْلُ أذرح وأَيْلَةَ وغيرهما على الجِزْية ونحوها، وانصرف، والزيغ المذْكُور هو ما هَمَّت به طائفةٌ من الانصراف؛ لِمَا لَقُوا من المشقَّة والعُسْرة. قاله الحسن. وقيل: زيغها إِنما كان بظُنُونٍ لها ساءَتْ في معنى عزم النبيِّ صلى الله عليه وسلم على تلك الغزوة، لما رأته من شدَّة الحال وقوَّة العدوِّ والمقصود، ثم أخبر عزَّ وجلَّ؛ أنه تاب أيضاً على هذا الفريقِ، وراجَعَ به، وأنس بإِعلامه للأمَّة بأنه رؤوفٌ رحيمٌ، والثلاثة الذين خُلِّفوا هم كعْبُ بن مالِكٍ وهلال بن أمية الوَاقفيُّ ومُرَارَةُ بنُ الرَّبيع العامريُّ، وقد خرَّج حديثهم بكماله البخاريُّ ومسلم، وهو في السِّير؛ فلذلك اختصرنا سَوْقَهُ، وهم الذين تقدَّم فيهم: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ الله} [التوبة: 106]، ومعنى {خُلِّفُواْ} أُخِّروا، وتُرِكَ النظرُ في أمرهم، قال كَعْب: وليس بتخلُّفنا عَنِ الغَزْوِ، وهو بَيِّنٌ من لفظ الآية. وقوله: {وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ الله إِلاَّ إِلَيْهِ}، {ظَنُّواْ}؛ هنا بمعنى: أيقنوا، قال الشيخُ ابْنُ أبي جَمْرة رحمه اللَّه: قال بعضُ أهْل التوفيق: إِذا نزلَتْ بي نازلةٌ مَا مِنْ أي نوع كانَتْ، فَأُلْهِمْتُ فيها اللَّجَأَ، فلا أبالي بها، واللَّجَأُ على وجوه؛ منها: الاشتغال بالذِّكْرِ والتعبُّدِ وتفويض الأمر له عزَّ وجلَّ، لقوله تعالى على لسان نبيه: «مَنْ شَغَلَهُ ذِكْرِي عَنْ مَسْأَلتي أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السَّائلين»، ومنها: الصَّدَقة، ومنها: الدعاء، فكيفَ بالمَجْمُوع. انتهى. وقوله سبحانه: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ} لما كان هذا القولُ في تعديد النعم، بدأ في ترتيبه بالجهَة الَّتي هي عَنِ اللَّه عز وجلَّ؛ ليكون ذلك مِنْها على تلقِّي النعمة مِنْ عنده لا رَبَّ غيره، ولو كان هذا القولُ في تعديد ذَنْبٍ، لكان الابتداء بالجهة التي هِيَ على المُذْنِب، كما قال عز وجل: {فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5] ليكون ذلك أشدَّ تقريراً للذنْب عليهم، وهذا مِنْ فصاحة القُرآن وبديعِ نظمِهِ ومُعْجِزِ اتساقه. وبيانُ هذه الآيةِ ومواقعِ ألفاظها إِنما يَكْمُلُ مع مطالعة حديثِ الثلاثة الذين خُلِّفوا في الكُتُب المذكورة، فَانظره، وإِنما عَظُم ذنبهم، واستحقوا عليه ذلك، لأن الشرع يطلبهم مِنَ الجِدِّ فيه بحَسَب منازلهم منه، وتقدُّمهم فيه؛ إِذ هم أُسْوة وحُجَّة للمنافقين، والطاعنين، إِذ كان كعْبٌ من أهْل العقبة، وصاحباه من أهْل بدر، وفي هذا ما يقتضي أَنَّ الرجُلَ العَالِمَ والمُقْتَدَى به أَقلُّ عذراً في السقوطِ مِنْ سواه، وكَتَب الأوزاعيُّ رحمه اللَّه إلى أبي جَعْفَرِ المنصورِ في آخر رسالةٍ: واعلم أَنَّ قرابتك مِنْ رسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم لَنْ تَزِيدَ حَقَّ اللَّهِ عَلَيْكَ إِلاَّ عَظِماً، ولا طاعَتَهُ إِلا وجُوباً، ولا النَّاسَ فيما خَالَفَ ذلك مِنْكَ إِلاَّ إِنكاراً، والسلام.
|